Friday

إطلاق النار في حالتي الفرح والغضب ظاهرة تتجدّد في لبنان


أطلقُ الرصاص لأعبر عن احساسي بالفرح والفخر"، "نطلق الرصاص لنؤكد اننا موجودون ومعنا سلاح"... هكذا عاد اطلاق النار الى الظهور بكثافة في لبنان، خصوصا في مدينة بيروت وضواحيها هذه الفترة، بعدما كان انحسر بشكل كبير في ظل الاجواء الامنية المستقرة التي سادت في الاعوام الماضية. واللافت في عودة هذه الظاهرة هذه الايام انها تقتصر في معظمها قبل او بعد خطاب يلقيه هذا الزعيم او ذلك الرئيس، وإن اختلفت الاسباب والمسببات بين الماضي والحاضر
.
اصبح من الضروري للذين يسكنون في المناطق التي يطلق فيها الرصاص عادة ان يغلقوا نوافذ منازلهم وابوابها حين يعلمون ان "حضرة" الزعيم او القائد سيلقي خطابا، بل اصبحوا مرغمين على البقاء في منازلهم الى حين انتهاء "حضرته" من القاء كلمته، حتى لا تصيبهم رصاصة طائشة او يصيبهم الهلع والخوف. فظاهره اطلاق الرصاص التي تنطلق في حالات "الابتهاج الشديد" باتت تشكل مصدر ازعاج عام، وتؤدي الى ترويع الناس وتخويفهم، فضلا عن انها قد تسبب اذى مباشرا لهم.

اطلاق النار الذي كان مستنكرا عند بعض المواطنين اصبح فعلا طبيعيا بعد حرب تموز، وخصوصا حين يطل الامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله بخطاب على الشاشة او في احتفال عام. هذا ما يقوله عباس. م (22 سنة) الذي يسكن ويعمل في منطقة حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت. وتنتابه المشاعر العارمة المشوبة بالفخر والعزة والكرامة، معتبرا ان السيد نصرالله يمثلها حين يقول بحماسة "ان السيد حسن هو رمز المقاومة وقائدنا ومجرد اطلالته على الشاشة او في اي مناسبة تشكل تحديا للعدو وتعبيرا عن عجزه في النيل منه... حماه الله. لذلك حين ينتهي السيد من القاء كلمته، اهرع فورا لأطلق مشطاً او مشطين من الرصاص تعبيرا عن احساسي بالابتهاج والمشاركة بالشعور الجماعي الاحتفالي الذي يعبر عنه كثيرون مثلي باطلاق الرصاص".



"نحنا موجودين ومعنا سلاح"
واذا كان عباس ينتظر مناسبة حتى يقوم باطلاق الرصاص، فان منير (41 عاما) كان في ايام الفوضى معتادا على القيام بهذا الفعل "بمناسبة او بلا مناسبة"، وهو الذي يملك صالونا للحلاقة في منطقة الفاكهاني – الطريق الجديدة. هذه المنطقة التي شهدت كثافة وجود عناصر التنظيمات الفلسطينية عام 1975، حيث لم تكن تفوت مناسبة الا وتطلق فيها الرصاص، حتى ان بعضهم كان يطلق العيارات النارية ابتهاجا لمجرد ان زوجته رزقت بمولود ذكر، او عند شيوع نبأ وفاة شخصية سياسية او عسكرية معادية، او عند القيام بعملية فدائية. ولكن كانت عادة اطلاق الرصاص، حسب ما يذكر منير، تلتصق بالاخص بكل تشييع لجنازة شهيد تابع لأحد التنظيمات.
ويضيف منير: "ورث ابناء المنطقة الذين كانوا ينتمون الى التنظيمات المختلفة (اللبنانية والفلسطينية) هذه العادة، لكنها انتهت تماما بعد انتخاب الياس الهراوي رئيسا للجمهورية اذ اصبح الجميع يهابون قوة الدولة، وانتهت بذلك مظاهر انتشار السلاح واطلاق النار عشوائيا بشكل نهائي".

اما وان الاوضاع السياسية والامـــــنية في لبنان قد اختلفت كثيرا في الفترة الاخيرة، فهل لا تزال هذه الـــعادة غائبة عن منطقة الطريق الجديدة؟ ام انها عادت لتظهر من جديد مع ظهورها بقوة في مناطق اخرى؟
يؤكد منير انه "في الفترة الاخيرة وتحديدا بعد ظهور ما يسمى بـقوى 8 و14 آذار، وبعد الفرز بين هذين الفريقين وفي ظل ما يعتبره ابناء المنطقة اثباتا للوجود وردا، وربما "نكاية" بالفريق الآخر، انتقلت هذه الظاهرة الى الجيل الجديد من "ولاد المنطقة"، وربما يعتبر كثيرون منهم ان اطلاق الرصاص، وخصوصا بعد الخطابات السياسية، وبعد ما حدث يوم حرق الدواليب في 23 كانون الثاني 2007 ومن بعدها حوادث الجامعة العربية في 25 منه، نوع من الرسالة للفريق الآخر اي: "نحن موجودون ومعنا سلاح".


ظاهرة موروثة
ويرى مواطنون عديدون ان عادة اطلاق الرصاص ظاهرة موروثة في بعض المناطق اللبنانية خصوصا، وثمة ان الفرح من دون اطلاق عيارات نارية لا نكهة له و"بلا طعمة". ويتحدث عصام ط. (26 سنة) مستذكرا المناسبة الاولى التي شهد فيها اطلاق الرصاص في بلدته في البقاع، "كانت حفلة زواج عمي، وكنت حينها ابلغ من العمر عشر سنوات، وكان صديق عمي يحمل رشاشا واخذ يطلق الرصاص في الهواء في اللحظة التي ابتدأت بها زفة العروسين، ودبت الحماسة في بعض الرجال الموجودين فأخذ كل منهم يتناوب على اطلاق النار من الرشاش او السلاح الذي يملكه. وما كان من والدي ايضا الا ان شهر مسدسه واخذ يطلق الرصاص في الهواء".
ويصيف: "هذه عادات شائعة عندنا في مناطق البقاع، ولا يكاد يخلو اي منزل من السلاح، فالاسلحة الحربية والمسدسات واسلحة الصيد كلها تستعمل في المناسبات وخصوصا الاعراس، ويقوم عدد كبير من اهل المنطقة باطلاق الرصاص في المناسبات التي تخصهم او تخص "كل مين بيعز عليهم" بشكل مباشر".


القانون واطلاق النار
ينص القانون اللبناني على معاقبة وتغريم كل من يطلق النار في الاماكن الآهلة وغير الآهلة، ويخص الاماكن التي يوجد فيها الناس في مساكنهم او اماكن عملهم او مقار توفير الخدمات الخاصة والعامة لهم، او في حشد من الناس ولو كان خارج هذه الاماكن، سواء تم اطلاق النار من سلاح مرخص او غير مرخص له.
والقانون قصد بذلك حماية امن المواطنين والحفاظ على سلامتهم وراحتهم، منطلقا من ان اطلاق النار لاي سبب قد يؤدي بصورة مباشرة او غير مباشرة الى اهدار تلك الحماية واقلاق راحة الناس وترويعهم وتعريضهم للخطر.
اما العقوبة المقررة فهي الحبس من ستة اشهر الى ثلاث سنوات، اضافة الى الغرامة، او فرض احدى هاتين العقوبتين، وذلك حسب طبيعة الفعل والجرم، ويصادر السلاح من مطلق النار في الاحوال كلها.


البعد الاجتماعي والنفسي
يشرح الدكتور طلال عتريسي (استاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية) ظاهرة اطلاق النار بأنها تعبير عن الوصول الى ذروة حالة معينة من الابتهاج او الفرح او الاعتراض. ويرى انها شكل من اشكال التعبير المفرط والمبالغ فيه، ويفترض التخلي عنه بسبب ما قد يلحقه من اذى او ضرر. ويشير الى ضرورة التعبير عن اي شعور في اي مناسبة او ظرف بطرق اخرى من دون اطلاق النار او استعمال السلاح. كما يرى ان المشكلة لا تنحصر بمنطقة واحدة من المناطق اللبنانية، لكنه يفسر احد اسباب هذه الظاهرة قائلا: "ان السلاح اصبح حاجة للحماية والدفاع عن النفس بسبب الاحساس عند البعض بضعف السلطة التي لا تؤمن الحماية والامن للمواطنين، لذا يهرع بعض المواطنين لاقتناء السلاح، وحينها قد يقومون باستخدامه في هذه المجالات غير الصحيحة".

ويؤكد عتريسي ان "جزءا من هذه الظاهرة هو من مخلفات الحرب اللبنانية، وجزءا آخر يعود الى ما قبل هذه الحرب، حين كان المواطنون يخرجون للتظاهر حاملين السلاح تعبيرا عن القوة والتحدي للسلطة. ولكن الحرب اللبنانية ساعدت ايضا على ان يمتلك معظم المواطنين السلاح وان يتقنوا استعماله. وبما ان المواطن اللبناني يملك القدرة على حمل السلاح واطلاق النار في ظل شبه الغياب للمحاسبة والمحاكمة، فان ذلك يتحول وسيلة ممتعة واستعراضية بالنسبة اليه. فمطلق النار يشعر بالقوة على المستوى النفسي، كما يشعر بتفوقه على الآخرين على المستوى الاجتماعي.

فمثلا عند تشييع احد الشهداء يطلق الرصاص بشكل غزير تعبيرا عن اهمية الشهيد بالنسبة اليه، وهذا يحمل مغزى آخر بالنسبة الى مطلق النار، اذ هو يعتبر اطلاق النار تحديا للقاتل، او المحتل، او العشيرة المعادية ربما، اي للطرف الآخر الذي هو على خلاف حاد معه. وعندما يتحدث احد القادة السياسيين ويحصل اطلاق نار بعد ذلك فيكون له نفس معنى التحدي، بمعنى ان مؤيدي هذا الزعيم يطلقون النار تعبيراً عن تأييدهم له، وضمنا هو تحد لمن يعارضهم في هذا التأييد".

ويعتبر عتريسي ان هذه الظاهرة جديدة في المجتمع اللبناني، خلافا لعادات اطلاق الرصاص في المناسبات والافراح، ولا يمكن التخلص منها الا اذا اختلفت الظروف السياسية الراهنة وتدنت "نسبة الاحتقان والتوتر السياسي. لكنه يرى ان اسباب ظاهرة اقتناء السلاح في لبنان "لا يمكن ان تزول الا بتغيير عميق لثقافة المواطنين بالتعامل مع الحماية والامن، اذ ان توفير الحماية الفعلية من الدولة وتطبيق القوانين على الجميع والمحاسبة والمعاقبة بشكل متشدد وقطعي هي السبيل الانجع لقمع هذه الظاهرة. لكن هذا لا يعني الغاءها تماما، فبعض المناطق التي تحكمها العشائر والقبليات لن تتخلى بسهولة عن هذه الظاهرة التي اصبحت من صميم اعرافها وعاداتها وتقاليدها".



•••

اخيرا، تستحق هذه الظاهرة انتباه جميع المعنيين والمسؤولين السياسيين والامنيين والاجتماعيين وتعاونهم، ويجب العمل على استئصالها بالطرق والوسائل كلها، اذ انها تعكس اسوأ الصور عن التخلف الحضاري والثقافي، وتعكس الامن الهش في مجتمع هو في حاجة ماسة الى الطمأنينة والهدوء وراحة البال


بتول خليل - النهار 18 كانون الثاني 2008