Friday

على الأقل....رسـالة الى سمير قصير


عزيزي سمير
ثلاث سنوات مرت، وانت في الغياب. ثلاث سنوات شهدت موتا كثيرا، واحلاما تهاوت، وكوابيس عبرت بنا وعبرنا بها.

ثلاث سنوات، يا الهي كيف يمضي الزمن كي يمضي بنا، ويرسم على ذاكرتنا وشم الأسى.

لا ادري ماذا اقول ولا ماذا اخبر، فأنت يا اخي الصغير، لا تزال هناك، مضرّجا بدمك، تفترش يدك اليمنى، وتموت. انت تنام الآن في جذور زيتونة مزروعة على رصيف الموت في الأشرفية، "جبلنا الصغير" الذي لم نغادره الا كي نعود لنموت فيه. الزيتونة الصغيرة تمتد من هنا الى هناك، من بيروت الى الجليل، لكننا نعتذر منك. كنا قد وعدناك بياسمينة دمشقية ترتفع على جذع الزيتونة، لكن الياسمين لا يزال سجينا مع اصدقائك واصدقائنا الذين اختنق ربيعهم قبل ان يبرعم.
في الأمس زارني صديق مشترك في مكتبي في "النهار" الذي يطل على مكتبك المقفل، وسألني عنك. تكلم عنك كأنك لا تزال حيا، فأخبرته عن كتابك الجديد القديم عن الحرب الأهلية اللبنانية الذي صدرت ترجمته أخيراً الى العربية، ورويت له عن السحر الذي تركه كتابك "تأملات في شقاء العرب"، في نفوس طلابي في نيويورك بعدما صدرت ترجمته الى الانكليزية. وعندما نظر الى صورتك سألني عن رأيك في الأوضاع الراهنة، عندها كدت انفجر حزنا وغضبا. اردت ان ابكي، فالدموع كالشعر تغسل القلب والروح، لكني لم ابك، لأن هناك يا صديقي من صار يجرؤ على الدموع ويحتقرها في هذه البلاد المنكوبة بكبرياء اللئام.
نظرتُ الى صورتك المعلقة الى الحائط في غرفتي، وحاولتُ ان استعيد بريق الحلم الذي التمع في عينيك، لكني لم استطع. ارجو ان تعذرني. لا. ربما يجب ان تعتذر انت، فلقد ابتلعت عيناك الحلم، واغرقته في بريقهما المدهش. كان موتك التراجيدي بداية لمسلسل الاغتيالات الوحشي الذي ضرب لبنان، كمقدمة لبناء الانقلاب المحكم، الذي وصل الى ذروته في الشحن الطائفي والمذهبي، مطيحا القيم التي حاولتَ تأسيسها، انت ورفاقك من قادة الرأي في انتفاضة الاستقلال.
لا اريدك ان تعتقد اني يائس او محبط، او اني اعتقد ان التضحيات ذهبت هباء. لا يا صديقي، فنحن الذين تربّينا على الحلم نعرف ان نزرع الأمل، حتى وإن القوا بنا في صحراء لا زرع فيها ولا ماء، كهذه الصحراء التي نبتت فجأة وسط غابة السلاح الذي صارت وظيفته ان "يحمي السلاح"!

لا يأس ولا تراجع، بل كثير من الأسى. وهو أسىً آتٍ من عودة منطق "الساحة" الى هذا الوطن الصغير. وحين تعود "الساحة" تستولي الطوائف على المشهد برمته، لأن الطوائف لا تحسن سوى اغتيال الاحلام.

الأسى كبير يا صديقي، لكنه اسى الأمل المقهور، بسبب المسار الذي رسمته الصراعات الاقليمية والدولية بالحديد والنار على اجساد اللبنانيين منذ عدوان تموز 2006.

لقد جعلوا من سلاح الموت اداة لقهر الحياة التي بدأت تنبض. الاسرائيليون وحليفهم الاميركي الأحمق ارادونا بوابة لشرق اوسط يهيمنون عليه، والنظام العربي المتآكل ارادنا وسيلة لتغطية عجزه وفقدانه للمبادرة، والنظامان السوري والايراني ارادا خوض حروبهما على ارضنا، كتمهيد لعودة الهيمنة، بأشكال جديدة.
لم نكن سذّجا كي لا نرى، لكننا لم نستطع إحداث "انتفاضة في الانتفاضة"، فبدأ كل شيء يتهاوى. قتلوك كي يعلنوا بداية الموت الزاحف على ارضنا. اغتسل الدم بالدم، وجرى تهشيم المجتمع المدني، تمهيدا لاستعادة لغة الانقسام الطائفي والمذهبي، الذي وصل الى ذروته في 8 و9 ايار 2008 حين تم اجتياح بيروت، وعادت الحرب الى الجبل وبعض الشمال.

تسألني عن الدوحة وعن الحشد الذي جاء الى بيروت كي يحتفي بسلام ناقص، وهدنة قلقة. ارى ابتسامتك الساخرة، واعرف ماذا تقول. بل اسمع صوتك يناديني ضاحكاً من مكتبك ليحدّثني عن "شقاء العرب".

"الاحباط ليس قدرا ايها الرفاق"، تقول. تلتفت فلا تجد الرفاق. لكنك تتمسك بحلم استقلال لبنان وعلمانيته، والديموقراطية لسوريا، والحرية لفلسطين. احدّثك عن الخيبة من الرفاق، وعن التاريخ الأعمى الذي جعل نضالنا من اجل وطن ديموقراطي علماني اشبه بالسراب، فتبتسم وتستدعي حبّك لبيروت كشهادة لمدينة قررت ان لا تموت. فأقول معك ان الاحباط ليس قدرا، وان علينا ان نواصل البحث عن الأمل، كي نجد البداية.

لا يأس، ايها الحبيب المتدثر بالموت. اعرف اننا لا نستطيع ان نقدّم لك سوى باقة من الحب. يقولون ان الحب لا يحيي من الموت، لكنهم على خطأ. لا شيء يستطيع ان ينتصر على الموت سوى الحب. الفن والشعر والأدب هي حيلة الانسان للتأقلم مع الموت، او هي حيلة الموت لمخاطبة الانسان باستعارة الخلود. اما الحب فهو الذي يحيي وينتصر ويتألق.

اراك امامي بهالة الحب التي تغطي جبينك العالي، اراك معي والى جانبي، كأننا لم نفترق في صبيحة ذلك اليوم الحزين من حزيران عام 2005. يومذاك سمعتُ الانفجار وذهبتُ راكضا الى بيتك. واليوم، كما في كل يوم، اشعر برغبة في الركض كلما وصلت الى نزلة "صيدلية بارتي"، كي اجدك في انتظاري، كأنك زيتونة صغيرة زُرعت في بيروت وارتفعت اغصانها في سماء الحلم.

انت الآن في مرتبة الأبطال، لذا تستطيع ان تقول "من الأول". وما علينا سوى ان نواصل البحث عن هذا الأول، كي يكون لنا وطن، وكي تكون للعرب كرامة

الياس خوري
2 حزيران 2008

Monday

جيزيل خوري: كم أتمنى لو كان في سجن !


لم تتوقع جيزيل خوري ان الموت سيأتي بهذه السرعة ويخطف منها حبيبها ويفرّق بينهما بهذه الطريقة المفجعة. لم تتخيل ان نهاية حياة زوجها سمير قصير ستشبه نهاية الابطال. بعد ثلاثة اعوام على رحيله، اعتادت غيابه لكنها لم تتقبل فقدانه، خفت حدة الغضب في داخلها لكن التسامح لم يأت.. تطورات وحوادث كثيرة حصلت منذ رحيل سمير قصير قسراً عام 2005. في الذكرى الثالثة لرحيله ماذا تخبره زوجته عن هذه الحوادث، وماذا تقول؟

اعلامية، ومنذ 3 سنوات اضيفت الى سيرتك الشخصية صفة جديدة: رئيسة "مؤسسة سمير قصير". ماذا تعني لك هذه الصفة؟
- اشعر ان المؤسسة هي الطفل الذي لم انجبه من سمير. هي مسؤولية كبيرة واستمرار لاسمه وافكاره. ساعدتني هذه الصفة على تقبل فكرة ان سمير ليس ملكي وحدي وازاحت فكرة الخوف من نسيان سمير قصير. والمؤسسة جزء من الحركة الثقافية التي كان دائماً حاضراً ومشاركاً فيها.
بعد ثلاث سنوات على استشهاد سمير قصير. ماذا تخبرينه اليوم عن بيروت؟
- اقول له، بيروت عاشت اصعب الظروف منذ رحيله، بيروت جُرحت وسقطت ولكنها كما عرفها مناضلة لا تنكسر. عادت قامت وانتصرت، وهي دائماً مبتسمة.
عن "انتفاضة الارز"؟
- ما زالت حيث تركها. مؤجلة حالياً.
عن احلام تركها في عهدة جيل الانتفاضة؟
- احلام تنتظر شرارة انتفاضة جديدة حتى تفيق من خمولها. الاحلام لا تموت، لكننا نعيش فترة ترقب وانتظار، ولا وقت للاحلام حالياً.
عن موجة القتل والمحكمة الدولية؟
- اطمئنه الى ان القتلة حاولوا قتل الحلم عندما اغتالوا الجسد لكنهم لم يفلحوا. والمحكمة آتية ولكن علينا ان نصبر. هي لن تعيده الى الحياة، لكن الحق والحقيقة مقدسان للانسان.
عن الحريات؟
- اخبره انه خلال حوادث الاعتداء على احدى وسائل الاعلام علمت ان زملاء اضطروا الى ترك منازلهم واللجوء الى مناطق اخرى. واذكره بأنه عاش ظروفاً مماثلة، ولكن في زمن مغاير حين ترك منزل اهله والتجأ الى مكان آخر. وهو خير من يعلم ان الحريات الاعلامية والثقافية في عالمنا العربي تعيش حالة صراع مستمر مع وسائل القمع الديكتاتورية.
عن فلسطين والعراق وسوريا؟
- يعلم جيداً كما ان قضيتنا ملتصقة بالقضية الفلسطينية، واضيف ان هناك محاولات لتغييب قضايا هذين البلدين اللذين يشكلان نموذجاً في المنطقة. عن العراق، اقول له ان توقعاته كانت صحيحة، فهو رأى جيداً بعد 3 اشهر من سقوط بغداد، ان الديموقراطية المستوردة من السياسة الاميركية لن تتحقق بسهولة، وان المنطقة دخلت في نفق طويل.
في يوم سقوط العاصمة العراقية، انتابته مشاع متناقضة، فهو كان حزيناً على هذه المدينة العريقة، وفي الوقت نفسه فرحاً لرؤية شعب عربي يتحرر من عبودية الاصنام.
عن سوريا اخبره ان اصدقاءه المثقفين ما زالوا في السجن. واستعيد معه يوم لقائه واكرم البني في برنامج تلفزيوني على قناة "الحرة" حيث روى البني قصة سجنه في السجون السورية وبعد الحلقة قال لي سمير "لا يحق لك بعد اليوم ان تخافي علي". واجيبه اليوم: "اوصلتهم معارضتهم الى السجن وكم كنت اتمنى لو انك في السجن!".
عن انتخاب الرئيس العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية؟
- اخبره اننا عشنا فترة فراغ للمقعد الرئاسي امتدت ستة اشهر وان الصراع السياسي خرج من المؤسسات الى الشارع، وان ثقافة السلاح عادت وبرزت، واخبره عما ادى اليه اتفاق الدوحة، واخيراً اقول له اصبح للبنان رئيس اتمنى ان يكون عهده قريباً من عهد الرئيس فؤاد شهاب، الذي ينتسب سليمان الى مدرسته الاصلاحية.
ماذا تخبرينه عنك؟
- اني احاول التصالح مع فكرة غيابه واخاف جداً نسيان صوته. واعيش في عالمه في بيروت.
خلال مشاركتك في مسيرة التضامن مع تلفزيون "اخبار المستقبل" ووسائل الاعلام الاخرى التابعة لـ"تيار المستقبل"، مررت قرب حديقة سمير، ماذا قلت له حينها؟
- كنت اتمنى لو توقف المشاركون في المسيرة امام صورة جبران تويني وساحة سمير قصير ليقولوا لهما: لا تخافا على الحرية التي استشهدتما من اجلها. اما انا فنظرت اليه ورأيته يبتسم لاننا لم نتعب بعد ولم نرضخ لمبدأ القوة والقمع.
تقولين عن المركز الاعلامي انه المشروع الاحب الى قلبك من بين المشاريع الاخرى للمؤسسة، لماذا؟
- لان سمير حين كان يتعرض لضغوط كان يلجأ الى منظمات الدفاع عن حقوق الصحافيين والانسان، ولان عنوان المشروع يتعلق بالحرية الاعلامية والثقافية، والحرية مقدسة عند سمير قصير. كما ان اهداف المركز الدفاع عن حرية الصحافيين واحترام رأيهم الحر، وتشمل بلاد المشرق التي اعتبر ان سمير هو ثمرتها.
هل يمكنك تصور عنوان مقالة سمير عن حوادث 7 ايار الماضي؟
- "مقاومة على مين؟".
كان سمير يردد امامك ان المناضل ليس له الحق ان يتعب، هل تعبت جيزيل خوري؟
- في آخر رسالة ارسلها لي عبر الهاتف قال: "انت دائماً مصدر اعتزازي". كلمات هذه الرسالة تمنعني من ان اتعب واستسلم، تضعف عزيمتي احياناً ولكن اعود واسترجع انفاسي واتذكر ان من يؤمن بالقضية التي استشهد من اجلها سمير قصير ممنوع عليه الاستسلام.
لماذا سمير قصير الذي عاش في فرنسا وتعلم هناك لم يفكر بالرحيل عن لبنان مثل غيره من المفكرين والمبدعين؟
- كل مرة حاولت اقناعه بالهجرة والعيش بعيداً عن الحوادث والفوضى كان يجيبني: "اذا كنت تريدينني ان اموت ابعديني عن بيروت". كان بينه وبينها قصة حب قوية، وكان يعشقها الى درجة انه رفض ان يبقى بعيداً عنها وهي تمر في ظروف صعبة، انما بقي واستشهد من اجلها. كمؤرخ كان يحب ان يعيش الحدث، ولم تكن تكفيه مشاهدته من بعيد، فبيروت كانت الحدث اي المكان والزمان واراد ان يشهد اهم لحظاتها التاريخية. وعاش في "انتفاضة الاستقلال" نشوة الانتصار والحلم بأن الانتفاضة التي حصلت من دون افتعال ستؤدي الى ربيع بيروت، وكان دائماً يبحث عن المحطات التاريخية ليعيشها.
لماذا تسكتين عندما تعاود وسائل اعلام حزبية معينة تناول جريمة اغتيال سمير قصير بطريقة مبتذلة احياناً، مسيئة الى ذكراه والى احدى شخصيات قوى 14 آذار؟
- لم اسكت بل تقدمت بشكوى امام القضاء اللبناني والخارجي لان مصدر الاشاعة وسيلة اعلامية غير لبنانية، ولست ممن يردون بالمثل اي الطرق المبتذلة والحقيرة ومن يعتمد نبش القبور للنيل من سمعة الاشخاص او تحطيمهم لا يستحق صفة انسان. فلنحترم الموت ولنترك شهداءنا يرقدون بسلام ولنفخر بهم.
ما هو موت من نحبهم قبل الاوان، غير الالم لغيابهم؟
- في البداية يكون شعور الالم والحزن والبكاء، ولكن مع الاحساس بأن طيفه ما زال حاضراً وقريباً، ثم مع مرور الوقت يحل شعور البعد وتأتي مرارة الاشتياق. اما الاحساس البيولوجي فأشبه بسلخ الجلد عن اللحم.
"عندما يكون الحب موجوداً، الحياة والموت غير مهمين". ماذا تفكرين عندما تسمعين مثل هذا الكلام؟
- احاول احياناً ان افكر بهذه الطريقة ولكنها لا تساعدني في تخطي شعور الاشتياق والحاجة الى رؤيته ولمسه والعيش معه.
فرنسوا مورياك يقول في كتابه "صحراء الحب" ان الموت يحفظ الذين نحبهم في شبابهم الرائع، وان الموت هو الملح الذي يحفظ الحب، اما الحياة فتذيبه. ما رأيك؟
- كنت افضل ان يبقى سمير على قيد الحياة ويعيش شبابه وشيخوخته وان نترك للحياة ان تقرر قدر حبنا. فلا احد على الارض يحق له ان يقرر مصير غيره

النهار- 2 حزيران 2008