Monday

           "غونزاليس"..ابداع الدراما الانسانية                           
                          

       المخرج أليخاندرو غونزاليس


صنع فيلم "بيوتيفل" آخر أفلام المخرج المكسيكي القدير أليخاندرو غونزاليس الحدث في مهرجان "كان" السينمائي هذا العام، حيث شق طريقه  ليعرض امام حشد كبير من نجوم السينما و الاعلاميين و النخب من جميع انحاء العالم. ومع ان  "بيوتيفل" كان الفيلم المكسيكي الوحيد المشارك في  المسابقة الرسمية، إلا أنه فرض نفسه على  لجنة التحكيم التي منحت جائزة أفضل ممثل لبطل الفيلم  النجم " خافيير باراديم"، الممثل الاسباني صاحب الانجازات اللامعة في أفلام سابقة و الذي خطف الأضواء مجددا في المهرجان من خلال أدائه المبهر.

وليست هذه المرة الأولى التي يكون فيها  غونزاليس في عين الحدث في مهرجان  "كان"، إذ سبق وأن انصفته لجنة المهرجان بمنحه جائزة السعفة الذهبية  كأفضل مخرج عن فيلمه العظيم "بابل" بعد أن حرمته منها لجنة جائزة الاوسكار، والتي وخلافا لكل التوقعات اشاحت النظرعن  غونزاليس وعن عظمة إبداعه بإخراجه "بابل" كتحفة سينمائية قلّ نظيرها في تاريخ السينما، حيث يعتبر الكثير من النقاد أن فيلم بابل من أفضل أفلام الدراما على الإطلاق. وقد حاز الفيلم على جائزة الغولدن غلوب كأفضل فيلم درامي.

 ويحكي فيلم بابل عن تشابك المصائر بالدرجة الأولى حيث تجوب أحداثه أربع  من قارات العالم ضمن لعبة قدرية تبدأ بمشاهد مبهمة  ذات إيقاع بطيء،  ثم تتسارع وتنكشف أحداثها المترابطة بوتيرة متصاعدة تشق الأنفس وتسمّر الأعين على كل حركة سعيا لالتقاط واستيعاب الكم الكبير من الرسائل المتوالية التي يبثها الفيلم. إذ يركّز في مجمل فكرته على الفوارق الاجتماعية والفكرية بين مجموعة العناصر التي يحتويها مظهراً نوعية حياتهم ومعاناتهم من نواح متعددة، خاصة ممارسة العادات واختلافها بل وعكس نتائجها حين تتابع وتتراكم  سلسلة من الأخطاء البشرية التافهة  لتترك تأثيرها في أماكن متعددة  مشكّّلة ما تنطبق عليه نظرية "أثر الفراشة" التي تؤدي إلى تفسير ظواهر الترابطات والتأثيرات المتبادلة والمتواترة التي تنجم عن حدث أول، قد يكون بسيطا في حد ذاته، لكنه يوّلد سلسلة  متتابعة من النتائج والتطورات المتتالية والتي يفوق حجمها بمراحل حدث البداية، وبشكل قد لا يتوقعه أحد.  و يظهر الفيلم مدى تفاوت احترام الحريات و القيمة الإنسانية بين الحكومات وطريقة تطبيقها للقوانين وطرق الحياة و المعيشة ضمن كل دولة وضمن العادات و التقاليد المختلفة. كما يركّز بابل على عناصر الزمان و المكان و مقاربتها و اتصالها بالشكل المطروح و كيفية تظهيرها من خلال ابداع غونزالس. انه فيلم القصص المتداخلة، قصص داخل قصص بطريقة فوضوية و عشوائية مقصودة، تعمّد المخرج بعثرة المشاهد بين هذه القصص جميعاً ليعود ويربطها نهاية بعد ان يشدنا لكامل الشخوص في الفيلم ضمن اسقاطات يتركها عمداً كي يعمل المشاهد على استنباط مجموعة كبيرة من تفكيك علاقتها الملتبسة.

وكما في"بابل" يقوم غونزاليس ايضاً في "بيوتيفل" على اظهار الالم المتجسد في تفاصيل يومية تنتج حياة شخصيات الفيلم. إذاً انها بصمة غونزالس التي تؤكد خطه وأسلوبه إذ انه  لا يكلّف نفسه عناء التعرّج كثيراً في الاعمال التي يقدمها.  ففي معالجته لتشابك المصائر و القصص المتداخلة  يعيدنا الى فيلمه " ناين لايفز- Nine Lives" الذي انتجه في العام 2005 و الذي يحكي عن تسع نساء تلتقي قصصهن و تتداخل حيث الخيبات المشتركة مع التركيز ايضاً على تفاصيل الحياة اليومية التي تصنع المشاهد و الاحداث.

أفلام غونزاليس لطالما أظهرت  الالم و تطرّقت الى المعاناة الانسانية بكافة اشكالها. وها هو " بيوتيفل" يحكي حكاية "اوكسبال" بائع المخدرات السابق ورب عائلة حالي تائب يلعب دوره الممثل "خافيير باراديم" الذي يناضل للحفاظ على توازنه النفسي لتربية طفليه و تصفية حساباته مع الماضي. ويعاني " اوكسبال" من مرض السرطان في مراحله المتقدمة ، حيث يعمل مع مهاجرين آسيويين و أفارقة و هو مُلاحق من قبل شرطة برشلونة،  كما انه مسكون بشبح والده الذي يحاول دفنه. و"اوكسبال" يربّي طفليه لوحده دون والدتهم التي ما زال مغرما بها.

عند مشاهدة "بيوتفل" نلاحظ ان الفيلم مشحون بمواضيع ثقيلة مثل الهجرة و العلاقات العائلية و الموت و العلاقات غير الشرعية بين الرجل و المرأة. كما ان الفيلم يعطينا انطباعاً وكأنّه يجسّد كل مآسي الحياة.ويمكننا أن نشاهد بوضوح أن   غونزاليس أراد  في "بيوتفل" أن يقدّم عملاً بطرق سردية جديدة تختلف عما سبق وقدمه،  لكن دون أي خروج عن الأطر الإنسانية التي من الواضح أنّها تقضّ مضجعه. ولا عجب أنه صرّح في مهرجان "كان" ان اخراج الفيلم كان صعباً مثله كمثل غيره من الافلام السابقة التي أخرجها، وخصّ  فيلم "بابل" بالإشارة حين قال عنه  "هذا الفيلم كان متعباً جداً، إذ أنه جعلني أجول أنحاء العالم كله من اجل أن أقدمه لكم كما رأيتموه".

  بتول خليل

2010- 6- 8

 


No comments: