Wednesday


 تشكّل جزءاً من ذاكرة الحرب الأهلية
الأغنية السياسية.." نقاوم من خلالها و نشعر اننا ملتصقين بالقضية"! 
خالد الهبر - مارسيل خليفة
" ودخلت في بيروت من بوابة النار الوحيدة، شاهراً حبّي، ففرَّ الحاجز الرملي، وانقشعت تضاريس الوطن..."، لعلّ هذه الكلمات من أغنية "من أين أدخل في الوطن" للفنان مارسيل خليفة، و التي تبدأ موسيقاها بموسيقى النشيد الوطني الذي يصهرها بقالب وطني مضفياً على قوة الاغنية و كلامها و لحنها و اداءها اكليل الوطن، كأنه يعلن احتكار الوطنية و اصطفافها الى الجبهة التي تنتمي اليها، كانت لتعبّر عن ماهية الاغنية السياسية و دورها في الصراع الذي كان دائراً ابّان الحرب الاهلية في لبنان، خاصة حين يجيب عن السؤال الذي تبدأ فيه الاغنية " من أين ادخل في الوطن؟" ليأتي الجواب " من بابه.. من شرفة الفقراء". هكذا عبّرت الاغنية السياسية عن انتماءها و من ثم استهدافها للطبقية معلنة "يساريتها" الكاملة في حرب اتخذ أحد ابرز عناوينها الصراع بين "اليمين" و "اليسار".
----------------------------------
" الاغنية السياسية  كانت تحمل شعار مرحلة  كما حصل في فترة الحرب الاهلية، اذ  كانت  تخدم توجهاً معيّناً في الصراع الذي كان قائما في لبنان بين " اليمين و اليسار". وكانت الاغنية  تصب في هذا الاتجاه"، يقول سامر حمادة  اليساري الشاهد على مرحلة الحرب. وهو يرى انه "على الرغم من وجود الحواجز بين المواطنين وقتها، الا ان  العمل الفني المميز والراقي كان يخترق كل الحواجز والحدود. فكان العديد من الفنانين الحاملين للقضية مثل مارسيل خليفة و احمد قعبور وغيرهم ،  تُذاع اغانيهم في المنطقة التي كانت تسمى " الشرقية". ورغم احساسنا ان هذه الاغاني تصبّ في قضيتنا " نحن اليساريين"، لتشكّل رصاصة تطلق من الآلة الموسيقية او عبر المذياع.، كانوا "هم" في الطرف الآخر اي في المناطق " الشرقية" يتلقفونها و يتفاعلون معها الى حد انهم يشعرون انها ملتصقة بهم و تعبّر عن تطلعاتهم في بعض الأحيان".

الغيتار مع السلاح!
شربل معلولي  شارك في الحرب الاهلية مع القوات اللبنانية، وكان شاهداً على مراحل ولادة ونضوج الأغنية السياسية ، كما كان من المتابعين لكل ما يبث من أغاني على مختلف الإذاعات اللبنانية، ويقول: "الاغنية السياسية كان لها وقع و اثر كبير عند كافة اطياف الشعب، وكل الفئات العمرية من الشباب الى الاطفال و المتقدمين في السن، فكلهم تفاعلوا معها بطريقة من الطرق". وعن منسوب التأثر، " كان يعلو عندما تهتز القضية الاساسية و في ايام القصف الشديد و المعارك الضارية بين الاطراف المتقاتلة. وكانت الاغنية السياسية ترافق  معظم من يحمل البندقية ليشعر انها سلاح اضافي يحفّزه على القتال و الصمود و الاستبسال، و كأنها  كانت ايضا درع وسلاح في يد المواطن العادي الذي كانت تخلق له الاحساس بانه  مشارك في القتال و تجعله يشعر انه ملتحم مع قضيته". 
ويستذكر معلولي كيف" كان البعض من المقاتلين يحملون مع سلاحهم الغيتار أو آلات موسيقية أخرى الى الجبهة، وتعلوا اصواتهم بالغناء لتصبح أعلى من دوي المدافع واصوات ارتطام القذائف". وبرأيه فإن "الأغنية السياسية ساهمت بشكل جذري بتثبيت العقيدة  التي كان كل المتقاتلين يؤمنون بها كونها –وكل من جهته- تعمل على تاكيد وطنيتهم وانتمائهم، لأن هذه الكلمة كانت منطلقة من عمق المعاناة ومن جوهر حقيقة فهم الصراع".

زياد..محور اجماع المواطنين
زياد الرحباني
لم تكن الاغنية السياسية بالنسبة الى حبيب فاضل تنفصل في بعض الاحيان عن المسرح او عن العمل الميلودرامي الذي كان له هموم وطنية . و اكثر من كان يقارب هذا الامرفي لبنان برأيه"  هو زياد الرحباني من خلال اغانيه التي قدمها في معظم مسرحياته. فكثيرا من اغانيه و التي قدم بعضا منها بصوته وبصوت  جوزيف صقر و آخرين سلطت الضوء على الحالة الطائفية في لبنان. وعبّر زياد من خلال مسرحياته واغانيه تلك عن رؤيا مبكرة وعن  الحالة الاكثر نقاءً  واستطلاعاً مستقبلياً الى ما يؤول إليه الوضع في لبنان. اذ جائت اغانيه  مثل " يا زمان الطائفية" او " قوم فوت نام " و" وراجعة باذن الله"  لتحكي عن واقع البلد المريض المستعصي الشفاء.  كما أن زياد كتب ولحّن أغان  تشكّل اجماعاً محوريا  لدى المواطنين و لو انها كانت تخصّ فئة معينة، لكنها لم تكن ضد من كانوا يسمون بالانعزاليين وقتها، بل كانت تخص قضية الشعب كله. فحين كانت الاغنية السياسية تحكي عن وضعنا المعيشي و الاجتماعي الصعب  في اغنية "يا نور عينييَ...كنا في احلى الفنادق جرجرونا عالخنادق" يتحدث عن خراب لبنان وعن ان الحرب نقلت الكثيرين من الثراء الى الفقر و من الامن الى اللاأمن ، ولإن كانت تطرح  عناوين فاقعة التناقض إلا انه لا أحد بامكانه إلا أن يجمع على صحة ما تعبرعنه".

تأثير موسيقي وادبي
الاغنية السياسية هي نتاج ثقافي يحمل أشكالاً موسيقية و كلامية، هذا ما يعبّر عنه حبيب فاضل حين يقول: "الاغنية السياسية ساهمت بتعريفي على شعراء كبار امثال أحمد فؤاد نجم من خلال أعمال الشيخ إمام، والشاعر حبيب صادق وخليل حاوي و طلال حيدر ومحمود درويش و سميح القاسم من خلال الفنان مارسيل خليفة و غيره .والاغنية السياسية لم تساهم بتشكّل الوعي السياسي لدينا  فحسب، بل و ساهمت ايضا بتشكيل  الحس الادبي و تكوين بداية الانفتاح على الكلمة التي كانت وراء هذه الاغنية. كذلك الامر بالنسبة للحن و الموسيقى، اذ اننا كنا نهتم بكل تكاوين هذه الاغنية و التي كنا نعتبر ان روادها هم امتداد لنا و لقضيتنا و يعبّرون عن تطلعاتنا. وكنا نشعر ان اي نجاح لهم هو نجاح لنا، لذلك كنا مهتمين بكامل تفاصيل الحركة و الاعمال من خلال حرصنا على وجود التسجيلات و جهاز الراديو بصحبتنا في كل نهارتنا و ليالينا .و كثيرا ما كنا نردد هذه الاغاني لنشعر اننا ملتصقين بالقضية والحدث، وان نكون بشكل من الاشكال واقفين على الجبهة و نقاوم من خلال وجودنا على الاقل عبر هذه الاغنية".



ذاكرة الأغنية السياسية

عبيدو باشا
تختلف الاغنية السياسية عن تلك الوطنية وهناك خلط في المفاهيم عند العرب، يقول الكاتب و الاعلامي و المسرحي عبيدو باشا وهو الذي عاش و عاين و شارك و كان على صلة بكل من له علاقة بانتاج الاغنية السياسية في فترة بروزها و امتدادها. و يشرح باشا ان " الاغنية الوطنية هي الاغنية التي تستعمل في الصراع ضد عدو خارجي، اي بوجود مواطنون يحفزون بعضهم كي يعززوا كل مستلزمات الصمود و القتال ضد هذا العدو. أما الاغنية السياسية  فهي ترتبط بمشروع سياسي داخلي، و تقوم على مبدأ غلبة الآخر في الداخل .و يتمتع لبنان بميزة انتاج اغنية سياسية وحده دون سائر البلدان العربية".
و يحمل باشا في ذاكرته تأريخاً اصيلاً للنشاط الغنائي و الموسيقي الشامل في زمن الحرب ، ويتحدث عن ذروة بروز و ازدهار الاغنية السياسية والتي كانت في بداية الحرب الاهلية في لبنان ، اذ "كان الشباب  الذين  انتجوا هذه الاغنية يشعرون بنوع من القمع وانهم فئات لا تستطيع ان تعبّر عن نفسها. فمثلاً خالد الهبر كان وقتها  في التجنيد الاجباري كعسكري احتياط في الجيش اللبناني، أحمد قعبور كان يغني باللغة الفرنسية في دار المعلمين، مارسيل خليفة كان يعمل استاذاً في الكونسيرفتوار الوطني اللبناني، أما سامي حواط فكان عضو في الحزب الشيوعي اللبناني ولم تكن الاغنية السياسية في باله ابداً. و هناك اعداد كبيرة غيرهم ابرزها غازي مكداشي ، وهو شخص اساسي في تجربة الاغنية السياسية عبر اطلاقه تجربة " الكورس الشعبي"، التي طرحت مفاهيم جديدة على صعيد علاقة الناس بالاغنية السياسية".

مناقشة الهوية الفردية و الوطنية
تناولت الاغنية السياسية شبكة العلاقات و الخطابات السياسية بين قضية تحرير المواطن و الانسان، بالمساهمة في تشكيل وعيه الجديد، وقضية تحرير الوطن من زواية اخرى. و يلفت باشا الى ان " اللبنانينون وقفوا امام واحدة من ابرز التجارب في تاريخ لبنان ووجدوا في الاغنية السياسية زواج الموقف السياسي من الموقف الفني و الثقافي، فافتتنوا بذلك. و تعاطت الاغنية السياسية مع مواضيع لم تعالجها الاغاني الاخرى و تطرقت الى المحرمات و المحظورات السياسية، وكان يوجد انتقاء للمواضيع عبر اسس شعرية عالية، فلعب الشعراء دوراً عظيماً في ترقية الاغاني و حملوها من الارض ليضعوها في "الغيم" عالياً. لذلك ادخلت هذه الاغنية مفاهيم و احاسيس مختلفة في الوعي الجماعي اللبناني ولاقت قبولاً و اقبالاُ كثيفاُ.، و ساهمت بشكل بارز بمناقشة الهوية الفردية و الوطنية للبنانيين. وكان لافتاً كيف كانت  الاغنية الرحبانية في ايام الحرب و القتال  تجد صداها غند الفريقين المتقاتلين، وغير المتفقين و لا على اي امر. وكان كل فريق يعتبر ان هذه الاغنية تنتمي له، فاستعملها " اليسار" من وجهة نظره و "اليمين" كذلك. ويعلل باشا سبب ذلك الى ان "هذه  الاغنية كانت فوق الجميع و ذات  لغة بيضاء و لا تحمل اي توجه او انتماء و ليس لها جمهورها المستهدف.  اما الاغنية التي كان لها هوية و توجه فهي كانت معروفة بانها منتجة من شباب على صلة بمشروع الحركة الوطنية .و كانوا جميعهم اعضاء منظمة الحزب الشيوعي او منظمة العمل اللبناني و بعضهم كان مقاتلا في هذا الحزب و هذه المنظمة".

اختطاف الاغنية !
لم تكن الاغنية السياسية في موقع الترحيب و لم تُفتح لها ابواب السلطة و الاعلام لدعمها. ويقول باشا في هذا السياق:"  لعل ابرز مشكلة واجهتها الاغنية السياسية هي التمويل و بالتالي لعبت منظمة التحرير الفلسطيني دور " روتانا" الاغنية السياسية. و فيما بعد انتبه اليسار اللبناني الى اهمية ان يكون له يد في انتاج هذه الاغنية، فقام الحزب الشيوعي بتمويل مشاريع عديدة. وبقيت المعضلة الثانية باعتراف  السلطة الثقافية، الاجتماعية و الاقتصادية بها . واليوم لا يوجد لها مكان على الساحة الفنية، فالاشخاص الذين عملوا في هذا النوع من الاغنية اعلنوا انفصالهم عنها، فيما بقي خالد الهبر هو الوحيد الذي لا زال يعمل على الاغنية السياسية بنفس المناخ و نفس الشروط، ولإن تغيّرت  شروط البيئة المحيطة. لذلك لم يعد هناك انتاج للاغنية السياسية، انما استعمال و استهلاك لكل الاعمال التي تم انتاجها في الفترات الماضية.  بل و ظهرت ايضاً اغاني التحريض على موقف سياسي مختلف، وهذا ما نراه اليوم  في مهرجانات و مناسبات القوى السياسية،  فبدل ان يعي الزعماء و السياسيين المستأثرين بالسلطة ان هذه الاغنية موجهة ضدهم قاموا باختطافها كما تخطف الشعارات تماماً".      
بتول خليل 
13 نيسان 2011 
                                                                      

No comments: